ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد آن محمدا عبده ورسوله.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
أما بعذ، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فإنه بمناسبة بعض المؤلفات التي ظهرت لا تقيم وزنا للسنة، على أنها مبينة للقرآن، أردت أن أقدم إليكم ما عندي من علم قليل حول هذه المسألة الهامة، من باب: {وتعاونوا على البر والتقوىٍ}.
كلنا يعلم ما هو معلوم من الدين بالضرورة: أن الإسلام دستوره القرآن الذي أنزله الله تبارك وتعالى على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، وأن هذا القرآن كثير من الناس قد إستقلوا في فهمه بناء على معرفتهم بشيء من اللغة العربية، بعد تحكيمهم عقولهم، إن لم نقل:
بعد تحكيمهم أهواءهم في تفسير كتاب الله تبارك وتعالى في كثير من آياته الكريمة؟ لذلك كان لزاما على كل من كان عنده شئ من العلم يبطل هذا النهج الذي ظهر، أو أظهر قرنه في هذا العصر الحاضر، بعد أن سمعنا منذ نحو نصف قرن من الزمان عن جماعة ينتسبون إلى القرآن، ويسمون أنفسهم بالقرآنيين حيث أنهم أكتفوا بادعاء أن الإسلام إنما هو القرآن فقط.
والآن فقد ظهرت دعوة جديدة تتشابه مع تلك الدعوة السابقة، وإن كانت لا تتظاهر بالاقتصار على القرآن وحده كما كانت تلك الفئة تصارح الناس بذلك، وتدعى أن الإسلام لاشيء منه سوى القرآن الكريم، ولسنا بحاجة إلى أن نثبت بطلان دعوى هؤلاء الذين يصرحون بأن الإسلام إنما هو فقط القرآن الكريم، ولكننا نريد أن نبين أن بعض الناس ممن يتظاهرون بأنهم يدعون إلى الإسلام- كتابا وسنة- قد انحرفت بهم أهواؤهم أو عقولهم عن السنة، ووقعوا في نحو ما وقع فيه أولئك الناس من الاعتماد على القرآن فقط.
لذلك أريد أن أبين لكم خطر هذا المنهج الذي سلكه أصحاب هذه الدعوة فنحن نعلم جميعا قول ربنا تبارك وتعالى مخاطبا نبينا صلوات الله وسلامه عليه بقوله { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } والآيات الكثيرة التي يلهج دائما بها خطباء السنة في الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة، هي أشهر من أن تذكر فلا أطيل الآن بذكرها، وإنما أدندن حول هذه الآية الكريمة التي فيها كما سمعتم قوله تبارك وتعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }.
ففي هذه الآية الكريمة نصر صريح أن النبي صلى الله عليه وسلم انزل عليه القرآن وكلف بوظيفة البيان لهذا القرآن، هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة: هو السنة المطهرة.
فمعنى هذا أن الله عز وجل لم يكل أمر فهم القرآن إلى الناس، حتى ولو كانوا عربا أقحاحا ، فكيف بهم إذا صاروا عربا أعاجم؟ فكيف بهم إذا كانوا أعاجم تعربوا؟
فهم لاشك بحاجة- لا يستغنون عنها- إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا البيان هو الوحي الثاني الذي أنزله الله تبارك وتعالى على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يكون هناك وحي متلو متعبد بتلاوته ألا وهو: ا لقرآن الكريم. ووحي ليس متلوا كالقرآن، ولكنه يجب حفظه، لأنه لا سبيل إلى فهم المبين ألا وهو القرآن إلا بالمبين، أو البيان الذي كلف به عليه الصلاة والسلام.
وقد يستغرب البعض حين نقول: إنه لا يستطيع أحد أن ينفرد أو أن يستقل بفهم القرآن، ولو كان أعرب العرب، وأفهمهم، وألسنهم، وأكثرهم بيانا، ومن يكون أعرب وأفهم للغة العربية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين انزل القرآن بلغتهم؟
ومع ذلك فقد أشكلت عليهم بعض الآيات فتوجهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عنها.
من ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في " صحيحه " والإمام أحمد في " مسنده " عن عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا على أصحابه قوله تبارك وتعالى { والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وأولئك هم المهتدون } شقت هذه الآية على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! وآينا لم يظلم؟
وآينا لم يظلم: يعنون بذلك، أنهم فهموا الظلم في هذه الآية الكريمة أنها تعني أي ظلم كان سواء كان ظلم العبد لنفسه، أوكأن ظلم العبد لصاحبه، أو لأهله أو نحو ذلك، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الأمر ليس كما تبادر لأذهانهم، وأن الظلم هنا: إنما هو الظلم الأكبر، وهو الإشراك بالله عز وجل. وذكرهم بقول العبد الصالح لقمان (إذ قال لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ).
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم العرب الأقحاح أشكل عليهم هذا اللفظ من هذه الآية الكريمة، ولم يزل الإشكال عنهم إلا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا هو الذي أشار إليه الله عز وجل في الآية السابقة (وأنزلنا إليك الذكر لتبتن للناس ما نزل إليهم ) ولذلك فيجب أن يستقر في أذهاننا، وأن نعتقد في عقائدنا أنه لا مجال لأحد أن يستقل بفهم القرآن دون الإستعانة بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
فلا جرم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( تركت فيكم أمرين أو شيئين، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي " وفي رواية " وعترتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض )[سلسلة الاحاديت الصحيحة (4/ 330)] تركت فيكم أمرين ليس أمرا واحدا، وحيين ليس وحيا واحدا، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي.
ومفهوم هذا الحديث: أن كل طائفة تمسكوا بأحد الأمرين، فإنما هم ضالون، خارجون عن الكتاب والسنة معا، فالذي يتمسك بالقرآن فقط دون السنة شأنه شأن من يتمسك بالسنة فقط دون القرآن، كلاهما على ضلال مبين، والهدى والنور أن يتمسك بالنورين، بكتاب الله تبارك وتعالى، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد بشرنا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الصحيح، أننا لن نضل أبدأ ما تمسكنا بكتاب ربنا، وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم .
ولذلك كان من أصول التفسير وقواعد علم التفسير، أنه يجب تفسير القرآن بالقرآن والسنة، وأكرر مؤكدا: يجب تفسير القرآن بالقرآن والسنة، ولا أقول كما قد تقرءون في بعض الكتب يجب تفسير القرآن بالقرآن أولاً ثم بالسنة ثانياً.
هذا خطأ شائع مع الأسف الشديد لأن السنة كما عرفتم تبين القرآن تفصل مجمله وتخصص عامه وتقيد مطلقه إلى غير ذلك من البيانات التي لا مجال للمسلم أن يستغني عن شئ منها إطلاقأ، ولذلك فلا يجوز تفسير القرآن بالقرآن فقط وإنما يجب تفسير القرآن بالقرآن والسنة معاً. فلا جرم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث السابق: ( ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ).
لذلك يجب على كل مفسر يريد أن يفسر آية من القرآن، وبخاصة إذا كانت هذه الآية تتعلق بالعقيدة، أو بالأحكام، أو بالأخلاق والسلوك ، فلا بد له من أن يجمع بين القرآن والسنة.
لماذا؟ لأنه قد تكون أية في القرآن بحاجة إلى بيان من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وإتماماً لهذا الموضوع لابد من التذكير بحديث معروف عند طلاب العلم ، وبخاصة الذين درس عليهم علم أصول الفقه، حيث يذكر هناك في مناسبة التحدث عن القياس وعن الإجتهاد- يذكر هناك- حديث مروي في بعض " السنن " عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أرسله إلى اليمن ( بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال : فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو. قال – في الحديث-: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله صلى الله عليه و سلم.
فيجب أن نعلم أن هذا الحديث لا يصح من حيث إسناده عند علماء الحديث تنصيصا وتفريعا، وأعني بالتنصيص: أن كثيرا من علماء الحديث قد نصوا على ضعف إسناد هذا الحديث، كالإمام البخاري إمام المحدثين وغيره، وقد جاوز عددهم العشرة من أئمة الحديث قديما وحديثا، من أقدمهم الإمام البخاري فيما أذكر، ومن آخرهم الإمام ابن حجر العسقلاني، وما بينهما أئمة آخرون، كنت ذكرت أقوالهم في كتابي " سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السئ في الأمة " فمن أراد البسط والتفصيل رجع إليه ، الشاهد أن هذا الحديث لا يصح بتنصيص الأئمة على ذلك، وأيضا كما تدل على ذلك قواعدهم، حيث أن هذا الحديث مداره على رجل معروف بالجهالة، أي: ليس معروفا بالرواية، فضلا عن أن يكون معروفا بالصدق، فضلا عن أن يكون معروفا بالحفظ، كل ذلك مجهول عنه، فكان مجهول العين، كما نص على جهالته الإمام النقاد الحافظ الذهبي الدمشقي في كتابه العظيم المعروف " بميزان الاعتدال في نقد الرجال "
فهذا الحديث إذا عرفتم أنه ضعيف عند علماء الحديث تنصيصاً وتفريعاً كما ذكرنا، فيجب بهذه المناسبة أن نذكر لكم أنه منكر أيضاً من حيث متنه، وذلك يفهم من بياني السابق، لكن الأمر أوضح في هذا الحديث بطلاناً مما سبق بيانه، من وجوب الرجوع إلى السنة مع القرآن الكريم معاً.
ذلك لأنه صنف السنة بعد القرآن، وبعد السنة الرأي، فنزل منزلة السنة إلى القرآن، ومنزلة الرأي إلى السنة.
فمتى يرجع الباحث أو الفقيه إلى الرأي؟
إذا لم يجد السنة.
ومتى يرجع إلى السنة؟
إذا لم يجد القرآن.
هذا لا يستقيم إسلامياُ أبداً، ولا أحد من أئمة الحديث والفقه يجري على هذا التصنيف الذي تضمنه هذا الحديث. "بم تحكم؟ قال: بكتاب الله فان لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله.
وينبغي أن نقرب نكارة متن هذا الحديث ببعض الأمثلة ولو كان مثالاً واحداً حتى لا نطيل.
كلنا يعلم قول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم (حرمت عليكم الميتة والدم ) الآية لو أن سائلاً سأل فقيهاً يمشي على التصنيف المذكور في حديث معاذ عن ميتة البحر، نظر في القرآن فوجد الجواب في هذه الآية الصريحة(حرمت عليكم الميتة والدم ) فسيكون جوابه إذا ما اعتمد على هذه الآية: أنه يحرم أكل ميتة السمك، كذلك إذا سئل عن الكبد والطحال؟ سيقول أيضاً: حرام " لأنه معطوف على الميتة ( حرمت عليكم الميتة والدم) فالكبد والطحال دم، فإذاً سيكون حكمه بناء على اعتماده على هذه الآية الكريمة وحدها غير إسلامي؟ ذلك لأن الإسلام كما ذكرت آنفاً ليس هو القرآن فقط بل القرآن والبيان، القرآن والسنة. فماذا كان بيان الرسول عليه السلام فيما يتعلق بهذه الآية الكريمة؟
لقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد فيه كلام، ولكنه صح عن ابن عمر موقوفاً ، وكما يقول علماء الحديث: هو في حكم المرفوع؟ لأن لفظه ( اُحلت لنا ميتتان ودمان: الحوت والجراد، والكبد والطحال ) [سلسلة الأحاديث الصحيحة (1118)] كذلك بالإضافة إلى هذا الحديث ، وفيه التصريح بإباحة بعض الميتة وبعض الدم ، يوجد هناك حديث آخر صحيح رواه الإمام مسلم في " صحيحه " "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية، وأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح، وساروا مع ساحل البحر، وكان قوتهم التمر حتى كاد أن ينفد، ولما قل التمر، كان يوزع على كل فرد تمرة تمرة، ثم بدا له من بعيد شئ عظيم على ساحل البحر، فذهبوا إليه، فإذا هو حوت ضخم عظيم جداً، فأخذوا يأكلون منه، ويتزودون منه، وكان من ضخامته أنهم نصبوا قوساً من أقواس ظهره على الأرض فمر الراكبُ من تحته وهو على جمله؟ من عظمة هذا الحوت، ألقاه البحر بقدرة الله عز وجل، وبتسييره للبحر لإطعام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما عادوا إلى النبي، سألهم هل معكم شئ منه تطعموني إياه؟
فهذا الحديث يدل على بعض ما دل عليه حديث ابن عمر الأول: أن ميتة البحر حلال.
فما موقف القرآني الذي لا يعتمد علي السنة، أو من تأثر بشبهات القرآنيين إذا ما سئل عن ميتة البحر، عن هذا الحوت وأمثاله؟ إذا اعتمد على القرآن، فسيقول: قال الله عز وجل: (حرمت عليكم الميتة ) وهذه ميتة، لكنه إذا ما رجع إلى ما في القرآن الكريم من الآيات التي تثبت أن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام كطاعة الله تبارك وتعالى، حينئذ يجد لزاماً عليه أن يعود أيضاً إلى السنة وأن يضمها إلى القرآن الكريم، وأن لا يفرق المسألة المتعلقة بهذه الآية الكريمة (حرمت عليكم الميتة) إلا ميتة البحر والدم، إلا الكبد والطحال، من أين أخذنا هذا الإستثناء؟ من بيان الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا أمر مهم جداً، فالشريعة كلها قامت على ضم السنة إلى القرآن، ولذلك جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال:
" السنة كلها هو مما أفهمه الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام ". يعني الإمام الشافعي أن السنة الصحيحة ينطوي القرآن عليها، وأن الله عز وجل ألهم نبيه عليه الصلاة والسلام ببيان ما كان المسلمون بحاجة إلى بيانه، من الآيات الكريمة. وهذا مثال واحد وفيه كفاية إن شاء الله. فالقاعدة في تفسير القرآن إنما هي بالرجوع إلى القرآن والسنة، ولا ينبغي أن نقول: بالرجوع إلى القرآن ثم السنة؟ لأن هذا فيه تصريح بأنها في المرتبة الثانية.
نعم. السنة من حيث ورودها هي بالمنزلة الثانية بالنسبة للقرآن الذي جاءنا متواتراً، ولكن من حيث العمل السنة كالقرآن، لا يجوز أن نفرق بين كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، والتفريق الذي يلاحظه بعض العلماء المتخصصين في علم الحديث هذا تفريق يتعلق بعلم الرواية، أما ما يتعلق بعلم الدراية والفقه والفهم للكتاب، فلا فرق بين كتاب الله وبين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا يجرنا إلى بحث آخر طالما تطرق له بعض المشككين في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لجهلهم بها، وبأصولها، وتراجم رواتها، ألا وهو ما يسمى بحديث الآحاد وحديث التواتر، حديث الآحاد لا يستفيد منه إلا الأفراد والآحاد من علماء الأمة ألا وهم المتخصصون في علم الحديث والسنة، أما عامة المسلمين فلا يتسفيدون من هذا التفصيل شيئاً يذكر، بل يكون ذلك مدعاة وسبباً لتشكيكهم فيما جاءهم عن نبتهم صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي قد لا تتسع عقول بعض الشكاكين والربيين للإيمان بها.
الحديث: هو ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأي طريق يعرفه علماء الحديث، أما التفصيل فليس عامة المسلمين بحاجة إليه.
تقسيم الحديث إلى: حسن. وصحيح. حسن لذاته. حسن لغيره. صحيح لذاته. صحيح لغيره. صحيح غريب. صحيح مستفيض. صحيح مشهور. صحيح متواتر، هذا كله لأهل العلم، أما لعامة المسلمين، فحسبهم أن يعلموا من أهل العلم أن الحديث صحيح، فوجب الإيمان والتصديق به.
أما الذين يتشبثون بهذه التفاصيل التي هي تليق بأهل العلم، وليس بعامة المسلمين، فهم يتشبثون بها لحمل جماهير المسلمين على عدم الإيمان بكثير من الأحاديث الصحيحة، لماذا؟ لأنها أحاديث آحاد، ومعنى أحاديث آحاد باختصار: أنها لم تبلغ درجة التواتر.
ويعنون بالتواتر على ذلك، أن الحديث الآحاد غير متواتر لا يجوز الأخذ به فيما يتعلق بالغيبيات، وهم يعبرون عنها بالعقائد، فكل حديث يتعلق بغير الأحكام، وإنما يتعلق بالغيب إذا لم يكن متواتراً فلا يؤخذ به، هكذا زعم الذين تشبثوا بالتفصيل المذكور آنفاً، وهو تفصيل يصادف الواقع، لكن من الذي يكتشفه؟
لا يكتشفه إلا أفراد قليلون جداً في كل عصر من علماء الحديث المتخصصين.
لنضرب مثلاً من المتفق عليه عند علماء الحديث جميعاً.
إن أوضح مثال للحديث المتواتر قوله عليه الصلاة والسلام "من كذب علي متعمداً، فليبتوا مقعده من النار" هذا حديث متواتر فعلاً، لماذا؟ لأنه وجد له من الرواة من الصحابة أكثر من مائة وهكذا دواليك [كلمة تستعمل تعيراً عن المواصلة والاستمرار] وأنت نازل، لكن من منكم الآن حصل هذه الطرق حتى يصبح الحديث عنده متواتراً؟ إذا أنا قلت لكم هذا الحديث متواتر، فقد انقطع التواتر عنكم من عندي، فيجب عليكم أن تتبعوا الأحاديث كما فعلت، وفعل غيري من قبلي، حتى يصبح الحديث عندكم متواتراً، ماذا يهمكم مثل هذا التفصيل الذي هو أشبه بالفلسفة التي لا تنفع عامة المسلمين إطلاقاً؟ فاشتراط التواتر في الحديث، هو تعطيل للحديث النبوى، ولذلك وجدنا كثيراً من الناس اليوم بعضهم متحزبون، وبعضهم قد يكونوا غير متحزبين، يردون أحاديث صحيحة بحجة أن هذا ليس في الأحكام، وإنما هو في أمور الغيب أو في العقائد، فهي أحاديث آحاد، فينبذونه نبذ النواة.
لنرجع الآن إلى العهد الأول عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لنرى كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينقلون أحاديث الرسول إلى من بعدهم، سواء كانوا من المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يتشرفوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم كاليمانيين الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في اليمن ولم يتيسر لهم أن يفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليهم معاذاً، وأرسل إليهم علياً، وأرسل إليهم أبا موسى الأشعري بفترات متفاوتة.
ماذا قال لمعاذ ابن جبل رضي الله عنه حينما أرسله داعية إلى الإسلام قال كما جاء في "الصحيحين " قال له عليه الصلاة والسلام: ( ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ، فإذا هم أجابوك فمرهم بالصلاة،.... إلى آخر الحديث.
الشاهد الصلاة حكم من الأحكام، ومع ذلك فقد جاء قبل ذلك أمره عليه السلام لمعاذ بأن يدعوهم إلى التوحيد، التوحيد هو أس الإسلام وهو أصل كل عقيدة في الإسلام، ترى معاذ بن جبل إذا بلغهم هذا الأمر عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر خبر متواتر أم خبر آحاد؟
لا يشك كل ذي لب وعقل أنه خبرآحاد، خبر فرد، ترى أقامت حجة الله، ثم حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمانيين الذين أرسل إليهم معاذ بدعوة التوحيد أم لم تقم؟
الذين أدخلوا فلسفة حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة معنى كلامهم: لا تقوم حجة الله ورسوله بإرسال الرسول لصاحبه معاذ بن جبل وحده، بل كان عليه أن يرسل عدد التواتر، ولذلك فأنا قلت لبعضهم مرة- ممن يدعي أن خبر الآحاد لا تؤخذ به عقيدة- قد يذهب أحدكم- أخاطب من لا يحتج بحديث الآحاد- قد يذهب أحدكم إلى بلاد من بلاد الكفر يدعوهم إلى الإسلام، ومما لاشك فيه أنه سيدعوهم أول ما يدعوهم إلى العقيدة، وأول عقيدة في الإسلام: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. لكن هذا الحزب الذي أشير إليه قد وضع له رئيسه فصلاً في كتاب له يسمى هذا الفصل " بطريق الإيمان " وهذا الطريق هو الذي يسلكونه في الدعوة، دعوة المسلمين في بلاد الإسلام، ودعوة الكفار في بلاد الكفر والطغيان.
قلت: فإذا ذهب أحدكم يقرر عليهم طريق الإيمان، وفي هذا الطريق يأتي في آخره: حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، وكان الناس مجتمعين يسمعون المحاضرة تلو المحاضرة، إلى أن انتهى من بيان طريق الإيمان،
ومنه: أن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، فقام أحد الذين تتبعوا محاضرات الرجل.
فقال له: يا أستاذ. يا فضيلة الشيخ. أنت الآن تعلمنا عقيدة الإسلام، وتذكر فيما ذكرت أن العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد، فأنت واحد من هؤلاء المسلمين الذين جئت من عندهم، لتعرفنا بعقيدة الإسلام، هذا على منهجك الذي علمتنا إياه، لا تقوم حجة الله علينا لأنك فرد واحد ، فعليك أن تعود إلى بلادك، وأن تجلب عدد التواتر ليشهدوا معك علي أن هذا هو الإسلام، فهل هذا هو الإسلام؟
وأين أنتم من حديث الرسول عليه السلام الذي ذكرناه آنفاً حينما أرسل معاذاً، وأرسل علياً، وأرسل أبا موسى، أفراداً يعلمون الناس الإسلام ، فمن هنا تعلمون أن هذه العقيدة دخيلة في الإسلام، لا يعرفها السلف الصالح؟ تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد.
حسبكم أن يصلكم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحاً بشهادة أهل التصحيح، وليس بشهادة العقول المأفونة، العقول التي لم تتطهر بفقه الكتاب والسنة معاً.
إذاً يجب تفسير القرآن بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كانت ليست متواترة، وإنما هي آحاد هذا هو الطريق الذي يجب علينا أن نسلكه دائماً في تفسيرنا لكتاب الله تبارك وتعالى، إيماناً بقوله عز وجل (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) هذا هو المنهج الذي يجب أن نسلكه في تفسير القرآن.
ولكن من الملاحظ أن هناك بعض الآيات لا نجد فيها حديثاً يفسر لنا القرآن الكريم، فما هو الطريق المكمل للمنهج الأول؟
الجواب: كما هو معروف عند أهل العلم، أنه يجب إذا لم نجد في السنة ما يفسر القرآن، نعود بعد ذلك إلى تفسير سلفنا الصالح، وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي مقدمتهم: عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه، لقدم صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة، ولعنايته بسؤاله عن القرآن، وفهمه وتفسيره من جهة أخرى، ثم: عبدا لله بن عباس رضي الله عنه، فقد قال ابن مسعود فيه " إنه ترجمان القرآن " وهذه شهادة من ابن مسعود لابن عباس، بأنه: ترجمان القرآن.
على هذا إذا لم نجد بياناً في السنة للكتاب، نزلنا درجة إلى الأصحاب، وأولهم ابن مسعود، وثانيهم ابن عباس، ثم من بعدهم أي صحابي ثبت عنه تفسيرآية، ولم يكن هناك خلاف بين الصحابة، نتلقى حين ذلك التفسير بالرضى والتسليم والقبول، وإن لم يوجد وجب علينا أن نأخذ عن التابعين الذين عنوا بتلقي التفسير من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، كسعيد بن جبير، وطاووس، ونحوهم ممن اشتهروا بتلقي تفسير القرآن عن بعض أصحاب الرسول عليه السلام، وبخاصة ابن عباس كما ذكرنا.
هناك بعض الآيات تفسر بالرأي، ولم يأت في ذلك بيان عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فيستقل بعض المتأخرين في تفسيرها تطبيقاً للآية على المذهب ، وهذه مسألة خطيرة جداً، حيث تفسر الآيات تأييداً للمذهب وعلماء التفسير فسروها على غير ما فسرها أهل ذلك، المذهب يمكن أن نستحضر على ذلك مثالاً:
قوله تبارك وتعالى في سورة المزمل (فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) فسرته بعض المذاهب بالتلاوة نفسها: أي الواجب من القرآن في كل الصلوات ، إنما هو آية طويلة أو ثلاث آيات قصيرة، قالوا هذا مع ورود الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وفي الحديث الآخر "من لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فصلاته خداج، فصلاته خداج، فصلاته خداج، غير تمام " ردت دلالة هذين الحديثين بالتفسير للآية، السابقة بدعوى أنها أطلقت القراءة، فقالت الآية (فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) فقال بعض المتأخرين من المذهبيين لا يجوز تفسير القرآن إلا بالسنة المتواترة، أي لا يجوز تفسير المتواتر إلا بالمتواتر، فردوا الحديثين السابقين اعتمادا منهم على فهمهم للآية على ما يبدو للقارئ لها أول وهلة ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) لكن العلماء بينوا- كل علماء التفسير لا فرق بين من تقدم منهم ومن تأخر- أن المقصود بالآية الكريمة (فاقرءوا أي: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل؟ لأن الله عز وجل ذكر هذه الآية بمناسبة قوله تبارك وتعالى في سورة المزمل ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك و الله يقدر الليل والنهار) إلى أن قال (فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) أي: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، فليست الآية متعلقة بما يجب أن يقرأ الإنسان في صلاة الليل بخاصة، وإنما يسر الله عز وجل للمسلمين أن يصلوا ما تيسر لهم من صلاة الليل، فلا يجب عليهم أن يصلوا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي كما تعلمون إحدى عشرة ركعة.
هذا هو معنى الآية، وهذا في الأسلوب العربي من إطلاق الجزء وإرادة الكل، فاقرءوا: أي فصلوا، الصلاة: هي الكل، والقراءة: هو الجزء.
ويقول أهل العلم باللغة العربية: إن هذا الأسلوب العربي إذا أطلق الجزء وأراد الكل، فهذا من باب بيان أهمية هذا الجزء في ذلك الكل، وذلك كقوله تبارك وتعالى في الآية الأخرى (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر) وقرآن الفجر أقم أيضاً، قرآن الفجر: أي صلاة الفجر، فأطلق أيضاً هنا الجزء وأراد الكل، هذا أسلوب في اللغة العربية معروف، ولذلك فهذه الآية بعد أن ظهر تفسيرها من علماء التفسير دون خلاف بين سلفهم وخلفهم، لم يجز رد الحديث الأول والثاني بدعوى أنه حديث آحاد، لا يجوز تفسير القرآن بحديث الآحاد
؟ لأن الآية المذكورة فسرت بأقوال العلماء العارفين بلغة القرآن أولاً. ولأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف القرآن، بل يفسره ويوضحه كما ذكرنا في مطلع هذه الكلمة، فكيف والآية ليس لها علاقة بموضوع ما يجب أن يقرأه المسلم في الصلاة، سواء كانت فريضة أو نافلة؟
أما الحديثان المذكوران آنفاً فموضوعهما صريح بأن صلاة المصلي لا تصح إلا بقراءة الفاتحة "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " "من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج، فصلاته خداج، فصلاته خداج، غير تمام " أي هي ناقصة، ومن انصرف من صلاته وهي ناقصة فما صلى، وتكون صلاته حينئذ باطلة كما هو ظاهر الحديث الأول " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
إذا تبينت لنا هذه الحقيقة حينئذ نطمئن إلى الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم مروية في كتب السنة أولاً، ثم بالأسانيد الصحيحة ثانياً، ولا نشك ولا نرتاب فيها بفلسفة الأحاديث التي نسمعها في هذا العصر الحاضر، وهي التي تقول: لا نعبأ بأحاديث الآحاد مادامت لم ترد في الأحكام، وإنما هي في العقائد، والعقائد لا تقوم على أحاديث الآحاد. هكذا زعموا، فقد عرفتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً يدعوهم إلى عقيدة أولى ألا وهي التوحيد، وهو شخص واحد.
وبهذا القدر كفاية في هذه الكلمة التي أردت بيانها، وهي تتعلق بكيف يجب علينا أن نفسر القرآن الكريم؟.
المصدر : روح الاسلام