بسم الله الرحمن الرحيم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) أخرجه مسلم(1).
1. الحديث دليل على فضل صيام شهر الله المحرم، وأن يلي فضل شهر رمضان في الأفضلية، وفضل الصيام فيه جاء من فضل أوقاته وتعظيم الأجر فيه، لأن الصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
2. شهر الله الحرام هو الشهر الذي تبدأ به السنة الهجرية، كما تم الاتفاق على ذلك في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو أحد الأشهر الحرم التي ذكر الله في كتابه فقال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(2) وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (... السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متوالية: ذو القعدة وذو الحجة و المحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) متفق عليه(3).
وقوله تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أيّ: في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، قال قتادة: (إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يُعَظِّمُ من أمره ما يشاء)(4).
3. أضاف الله تعالى هذا الشهر إليه تشريفاً وتعظيماً لأن الله تبارك وتعالى لا يضيف من الأشياء إليه إلا خواصّها؛ كبيت الله، ورسول الله، ونحو ذلك.
وسُمّي محرمّاً تأكيداً لتحريمه، لأن العرب كانت تتقلب فيه؛ فتُحلّه عاماً وتُحرمّه عاماً، قال ابن رجب: و قد سمى النبي صلى الله عليه و سلم المحرم شهر الله، و إضافته إلى الله تدل على شرفه و فضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته كما نسب محمدا و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و غيرهم من الأنبياء إلى عبوديته و نسب إليه بيته و ناقته. و لما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى كان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به و هو الصيام. وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز وجل أنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز و جل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه و
يحرمون مكانه صفرا فأشار إلى أنه شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك و تغييره(5).
4. جعل الله هذه الشهور الهلالية مواقيت للناس، لأنها علامات محسوسة يعرف كل أحد بدايتها ونهايتها، ومما يؤسف عليه أن كثيراً من المسلمين تركوا التاريخ الهجري، وأخذوا بتاريخ النصارى الميلادي، المبني على أشهر وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس. وهذا دليل الضعف والانهزامية والتبعية لغير المسلمين، ومن مفاسده: ربط المسلمين وناشئتهم بتاريخ النصارى، وإبعادهم عن تاريخهم الهجري الذي ارتبط برسولهم -صلى الله عليه وسلم- وبشعائر دينهم وعبادتهم. فالله المستعان.
5. دل الحديث على أن أفضل ما يتطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم، والظاهر أن هذا محمول على أنه أفضل شهر يُتطوّع بصيامه بعد رمضان، أما التطوع بصيام بعض الأيام منه فقد يكون بعض الأيام أفضلَ من أيامه؛ كيوم عرفة وستة أيام من شوال، قاله ابن رجب في لطائف المعارف احتمال، ثم قالو يشهد لهذا ما خرجه الترمذي من حديث علي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: (يا رسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله و فيه يوم تاب الله فيه على قوم و يتوب على آخرين ) وفي إسناده مقال(6)، و لكن يقال: أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم شهر شعبان و لم ينقل أنه كان يصوم المحرم إنما كان يصوم عاشوراء. و قوله في آخر سنة: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، يدل على أنه كان لا يصوم التاسع قبل ذلك و قد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف.
والذي ظهر لي والله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان:
أحدهما: التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل.
والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله و بعده فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان و هو ملتحق بصيام رمضان. و لهذا قيل: إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان و يكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضا.
وقد روي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بصيام شوال فترك الأشهر الحرم و صام شوالا(7). فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان وصيامه أفضل التطوع مطلقا فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أمر رجلا أن يصوم الحرم(.
و أفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم ويشهد لهذا أنه صلى الله عليه و سلم قال في هذا الحديث: (وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل) ومراده: بعد المكتوبة ولواحقها من سننها الرواتب فإن الرواتب قبل الفرائض وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء؛ لالتحاقها بالفرائض. وإنما خالف في ذلك بعض الشافعية فكذلك الصيام قبل رمضان و بعده ملتحق برمضان وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم و أفضل التطوع المطلق بالصيام صيام المحرم)(9)
شهر الحرام مبارك ميمـون والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمـه لوجه إلهـه في الخلـد عند مليكه مخزون
6. ظاهر الحديث فضل صيام شهر المحرم كاملاً، وحمله بعض العلماء على الترغيب في الإكثار من الصيام في شهر المحرم لا صومه كلّه، لقول عائشة - رضي الله عنها -: (... ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهرٍ قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) أخرجه مسلم(10).
7. قال ابن رجب: لما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلق، و كان
صيامها كلها مندوبا إليه كما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم، و كان بعضها ختام السنة الهلالية و بعضها مفتاحا لها فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه و صام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة و افتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة؛ فإن من كان أول عمله طاعة و آخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين و في حديث مرفوع: (ما من حافظين يرفعان إلى الله صحيفة فيرى في أولها و في آخرها خيرا إلا قال الله لملائكته أشهدكم أني غفرت لعبدي ما بين طرفيها) خرجه الطبراني و غيره وهو موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي(11) و في حديث آخر مرفوع: (ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة و من آخر النهار ساعة أغفر لك مابين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها)(12) وقال ابن المبارك: من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكر، يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم فإذا كان البداءة و الختام ذكرا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملا للجميع و يتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية(13).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[b](1) صحيح مسلم (1163).
(2) سورة التوبة (36).
(3) صحيح البخاري (4662) وصحيح مسلم (1679).
(4) تفسير ابن كثير 4/ 89 ـ90
(5) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 38 ـ 39، طبعة مؤسسة الريان.
(6) جامع الترمذي 3/117 (741)،وقال: حسن غريب، ورواه أحمد في المسند 1/154وغيره. ومداره على عبد الرحمن بن إسحق الواسطي أبي شيبة عن النعمان بن سعد عن علي. والواسطي ضعيف، والنعمان فيه جهالة.
(7) سنن ابن ماجه 1/555 (1744) والراوي عن أسامة هو محمد بن إبراهيم التيمي. قال الحافظ ابن حجر في التهذيب: أرسل عن أسامة. وقال الحافظ ابن رجب في موضع آخر من لطائف المعارف ص131: و في إسناده انقطاع. وفي موضع ثالث ص143 قال: و في إسناده إرسال و قد روي من وجه آخر يعضده.
( سنن أبي داود 2/322ـ323(2428)، والنسائي في الكبرى 2/139ـ140، وابن ماجه1/554(1741)، وأحمد 5/28 وغيرهم من طريق أبي السليل عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها مرفوع، وقيل: أبي مجيبة الباهلي. والأرجح أنها امرأة وفيها جهالة، وهذا علة الحديث.انظر الميزان 3/440.
(9) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 36 ـ 37.
(10) صحيح مسلم (1156).
(11) جامع الترمذي 3/ 310 (981) وفي إسناده ضعف لأن فيه تمام بن نجيح وهو ضعيف. ولم أقف عليه عند الطبراني.
(12) في حلية الأولياء 8/ 213 نحو هذا الأثر، وقال الأصبهاني:غريب.
(13) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 38.
شبكة السنة و علومها